فصل: الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: (هَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كَفَّارَةُ الْقَتْلِ:

وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي قَتْلِ الْحُرِّ خَطَأً وَاجِبَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟
وَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً، فَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي قَتْلِ الْحُرِّ فَقَطْ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْعَمْدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْعَمْدَ فِي هَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْخَطَأِ.

.تَغْلِيظُ الدِّيَةِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُغَلَّظُ فِيهِمَا فِي النَّفْسِ وَفِي الْجِرَاحِ. وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُزَادُ فِيهَا مِثْلُ ثُلُثِهَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ الظَّاهِرِ فِي تَوْقِيتِ الدِّيَاتِ، فَمَنِ ادَّعَى فِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْكَفَّارَةُ فِيمَنْ قُتِلَ فِيهِمَا. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوْقِيفِ، وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسَ أَنَّ التَّغْلِيظَ فِيمَا وَقَعَ خَطَأً بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَلِلْفَرِيقِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ قَدْ يَنْقَدِحُ فِي ذَلِكَ قِيَاسٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَمِ وَاخْتِصَاصِهِ بِضَمَانِ الصُّيُودِ فِيهِ.

.كِتَابُ الدِّيَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:

وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هِيَ شِجَاجٌ وَأَعْضَاءٌ، فَلْنَبْدَأْ بِالْقَوْلِ فِي الشِّجَاجِ.

.الْقَوْلُ فِي دِيَاتِ الشِّجَاجِ:

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَقَدْرِهِ الْوَاجِبِ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟
وَمَتَى تَجِبُ؟
وَلِمَنْ تَجِبُ؟
فَأَمَّا مَحَلُّ الْوُجُوبِ فَهِيَ الشِّجَاجُ أَوْ قَطْعُ الْأَعْضَاءِ، وَالشِّجَاجُ عَشَرَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ: أَوَّلُهَا الدَّامِيَةُ (وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي الْجِلْدَ)، ثُمَّ الْخَارِصَةُ (وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ)، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ (وَهِيَ الَّتِي تُبَضِّعُ اللَّحْمَ: أَيْ: تَشُقُّهُ)، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ (وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ)، ثُمَّ السَّمْحَاقُ (وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ السَّمْحَاقَ وَهُوَ الْغِشَاءُ الرَّقِيقُ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ)، وَيُقَالُ لَهَا: الْمَلْطَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ (وَهِيَ الَّتِي تُوَضِّحُ الْعَظْمَ أَيْ: تَكْشِفُهُ)، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ (وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ)، ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ (وَهِيَ الَّتِي يَطِيرُ الْعَظْمُ مِنْهَا)، ثُمَّ الْمَأْمُومَةُ (وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ أُمَّ الدِّمَاغِ)، ثُمَّ الْجَائِفَةُ (وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ)، وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ مُخْتَصَّةً بِمَا وَقَعَ بِالْوَجْهِ مِنْهَا وَالرَّأْسِ دُونَ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَاسْمُ الْجُرْحِ يَخْتَصُّ بِمَا وَقَعَ فِي الْبَدَنِ، فَهَذِهِ أَسْمَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ. فَأَمَّا أَحْكَامُهَا (أَعْنِي: الْوَاجِبَ فِيهَا)، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ وَاقِعٌ فِي عَمْدِ الْمُوضِحَةِ وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خَطَأً. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خَطَأُ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا حُكُومَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أُجْرَةُ الطَّبِيبِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي السِّمْحَاقِ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى فِيهَا بِأَرْبَعٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَانِ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي السَّمْحَاقِ أَرْبَعَةٌ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِرَاحِ الْحُكُومَةُ إِلَّا مَا وَقَّتَتْ فِيهِ السُّنَّةُ حَدًّا، وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ فِي إِلْزَامِ الْحُكُومَةِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَنْ تَبْرَأَ عَلَى شَيْنٍ، وَالْغَيْرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ يُلْزِمُ فِيهَا الْحُكُومَةَ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ أَوْ لَمْ تَبْرَأْ فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ. فَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهَا إِذَا كَانَتْ خَطَأً خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ» يَعْنِي مِنَ الْإِبِلِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْضِعِ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْجَسَدِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا (أَعْنِي: عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ مِنْهَا)، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْمُوضِحَةُ إِلَّا فِي جِهَةِ الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَاللَّحْيِ الْأَعْلَى، وَلَا تَكُونُ فِي اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعُنُقِ وَلَا فِي الْأَنْفِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَالْمُوضِحَةُ عِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ وَطَائِفَةٌ: تَكُونُ فِي الْجَنْبِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَتِهَا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ. وَغَلَّظَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ تَبْرَأُ عَلَى شَيْنٍ، فَرَأَى فِيهَا مِثْلَ نِصْفِ عَقْلِهَا زَائِدًا عَلَى عَقْلِهَا، وَرَوَى ذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، فَمَرَّةً قَالَ بِقَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمَرَّةً قَالَ: لَا يُزَادُ فِيهَا عَلَى عَقْلِهَا شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ قِيلَ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ قَالَ: إِذَا شَانَتِ الْوَجْهَ كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَمَعْنَى الْحُكُومَةِ عِنْدَ مَالِكٍ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا.
وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ فَفِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْهَاشِمَةُ هِيَ الْمُنَقِّلَةُ وَشَذَّ.
وَأَمَّا الْمُنَقِّلَةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا عُشْرَ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الْعُشْرِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَمْدًا، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَوَدٌ لِمَكَانِ الْخَوْفِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَقَادَ مِنْهَا وَمِنَ الْمَأْمُومَةِ.
وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ فِي الْعَمْدِ. فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قَوَدٌ. وَمَنْ أَجَازَ الْقَوَدَ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ مِنَ الْهَاشِمَةِ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقَادُ مِنْهَا وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَأَمَّا الْجَائِفَةُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ لَا مِنْ جِرَاحِ الرَّأْسِ وَأَنَّهَا لَا يُقَادُ مِنْهَا وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ وَأَنَّهَا جَائِفَةٌ مَتَى وَقَعَتْ فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ فَنَفَذَتْ إِلَى تَجْوِيفِهِ، فَحَكَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ فِي كُلِّ جِرَاحَةٍ نَافِذَةٍ إِلَى تَجْوِيفِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ - أَيِّ عُضْوٍ كَانَ - ثُلُثَ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ. وَحَكَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ فِي هَذَا لَا يَسُوغُ، وَإِنَّمَا سَنَدُهُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَأَمَّا سَعِيدٌ فَإِنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْجَائِفَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ.
وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ الَّتِي تَقَعُ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ فَلَيْسَ فِي الْخَطَأِ مِنْهَا إِلَّا الْحُكُومَةُ.
الْقَوْلُ فِي دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَصْلُ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ إِذَا قُطِعَ خَطَأً مَالٌ مَحْدُودٌ، (وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى دِيَةً، وَكَذَلِكَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ وَالنُّفُوسِ) حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ: «إِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا اسْتُوعِبَ الدية جَدْعًا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَاكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ خَمْسٌ» وَكُلُّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا السِّنَّ وَالْإِبْهَامَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا قِيَاسًا عَلَى مَا نَذْكُرُ، فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ فِي السُّفْلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا تَحْبِسُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ حَرَكَتَهَا وَالْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ حَرَكَةِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الدِّيَةَ مَا خَلَا الْحَاجِبَيْنِ وَثَدْيَيِ الرَّجُلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُذُنَيْنِ مَتَى تَكُونُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ: إِذَا اصْطُلِمَتَا كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِذْهَابَ السَّمْعِ، بَلْ جَعَلُوا فِي ذَهَابِ السَّمْعِ الدِّيَةَ مُفْرَدَةً.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ إِلَّا إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَضَى فِي الْأُذُنَيْنِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يَضُرَّانِ السَّمْعَ وَيَسْتُرُهُمَا الشَّعْرُ أَوِ الْعِمَامَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي الْأُذُنِ إِذَا اصْطُلِمَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ الدِّيَةَ.
وَأَمَّا الْحَاجِبَانِ فَفِيهِمَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حُكُومَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِلَّا حُكُومَةٌ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ اثْنَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ الدِّيَةُ وَتَشْبِيهُهُمَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُثَنَّاةِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْقِيَاسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ السَّمَاعِ فِيهِ دِيَةٌ فَالْأَصْلُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَوَاجِبَ لَيْسَتْ أَعْضَاءً لَهَا مَنْفَعَةٌ وَلَا فِعْلٌ بَيِّنٌ (أَعْنِي: ضَرُورِيًّا فِي الْخِلْقَةِ).
وَأَمَّا الْأَجْفَانُ فَقِيلَ فِي كُلِّ جَفْنٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْعَيْنِ دُونَ الْأَجْفَانِ، وَفِي الْجَفْنَيْنِ الْأَسْفَلَيْنِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا الثُّلُثُ وَفِي الْأَعْلَيَيْنِ الثُّلُثَانِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ تُصَابَ عَيْنَاهُ وَأَنْفُهُ فَلَهُ دِيَتَانِ.
وَأَمَّا الْأُنْثَيَانِ فَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ فِيهِمَا الدِّيَةَ، وَقَالَ جَمِيعُهُمْ: إِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى ثُلُثَا الدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْهَا وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَهَذِهِ مَسَائِلُ الْأَعْضَاءِ الْمُزْدَوِجَةِ.
وَأَمَّا الْمُفْرَدَةُ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ عَلَى أَنَّ فِي اللِّسَانِ خَطَأً الدِّيَةُ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الْكَلَامَ، فَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ مَا مَنَعَ الْكَلَامَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِيهِ عَمْدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ قِصَاصًا وَأَوْجَبَ الدِّيَةَ، وَهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْكُوفِيُّ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى الدِّيَةَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَالْكُوفِيُّ وَمَالِكٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ: فِي اللِّسَانِ عَمْدًا الْقِصَاصُ.
وَأَمَّا الْأَنْفُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُوعِبَ جَدْعًا عَلَى أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ ذَهَبَ الشَّمُّ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَفِي ذَهَابِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الذَّكَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْوَطْءُ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِيهَا الدِّيَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِيهَا حُكُومَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً. وَأَقَلُّ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ مَالِكِ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، ثُمَّ فِي بَاقِي الذَّكَرِ حُكُومَةٌ.
وَأَمَّا عَيْنُ الْأَعْوَرِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا فِي عَيْنِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لِلْأَعْوَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا لِغَيْرِ الْأَعْوَرِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (أَعْنِي: عُمُومَ قَوْلِهِ: «وَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ»)، وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ قَطَعَ يَدَ مَنْ لَهُ يَدٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا نِصْفَ الدِّيَةِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، وَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْقِيَاسِ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيمَنْ ضَرَبَ عَيْنَ رَجُلٍ فَأَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهَا مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالَّذِي أُصِيبَ بَصَرُهُ بِأَنْ عُصِبَتْ عَيْنُهُ الصَّحِيحَةُ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يُبْصِرْهَا، فَخَطَّ عِنْدَ أَوَّلِ ذَلِكَ خَطًّا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الْمُصَابَةِ فَعُصِبَتْ وَفُتِحَتِ الصَّحِيحَةُ، وَأَعْطَى رَجُلًا الْبَيْضَةَ بِعَيْنِهَا فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى خَفِيَتْ عَنْهُ، فَخَطَّ أَيْضًا عِنْدَ أَوَّلِ مَا خَفِيَتْ عَنْهُ فِي الْأَرْضِ خَطًّا، ثُمَّ عَلَّمَ مَا بَيْنَ الْخَطَّيْنِ مِنَ الْمَسَافَةِ، وَعَلَّمَ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنْ مُنْتَهَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ، فَأَعْطَاهُ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الدِّيَةِ. وَيَخْتَبِرُ صِدْقَهُ فِي مَسَافَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ الْعَلِيلَةِ وَالصَّحِيحَةِ بِأَنْ يَخْتَبِرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا شَتَّى فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ مَسَافَةُ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ وَاحِدَةً عَلِمْنَا أَنَّهُ صَادِقٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الشَّكْلِ الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: فِيهَا حُكُومَةٌ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ (مِائَةُ دِينَارٍ). وَحَمَلَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زَيْدٍ تَقْوِيمًا لَا تَوْقِيتًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الشَّكْلِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الدِّيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَتِمُّ دِيَةُ السِّنِّ بِاسْوِدَادِهَا ثُمَّ فِي قَلْعِهَا بَعْدَ اسْوِدَادِهَا دِيَةٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ عَمْدًا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فَلَهُ الْقَوَدُ، وَإِنْ عَفَا فَلَهُ الدِّيَةُ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَامِلَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: نِصْفُهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَ مَالِكٌ، وَبِالدِّيَةِ كَامِلَةً قَالَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنُ دِينَارٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَيْسَ لِلصَّحِيحِ الَّذِي فُقِئَتْ عَيْنُهُ إِلَّا الْقَوَدُ أَوْ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى جَمِيعَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ مَا تَرَكَ لَهُ وَهِيَ الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ، وَهِيَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَذْهَبُ عُمَرُ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ إِذَا فُقِئَتْ وَجَبَ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ فِي مَعْنَى الْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا إِلَّا الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا تَرَكَهَا لَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا. وَعُمْدَةُ أُولَئِكَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ (أَعْنِي: أَنَّ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ). وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي بَابِ الْقَوَدِ فِي الْجِرَاحِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى (مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ): إِنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَإِنَّ الْأَصَابِعَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنَّ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثَ الْعَشْرِ إِلَّا مَالَهُ مِنَ الْأَصَابِعِ أُنْمُلَتَانِ كَالْإِبْهَامِ، فَفِي أُنْمُلَتِهِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ. وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»، وَخَرَّجَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْأَصَابِعِ بِعُشْرِ الْعَشْرِ»، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِحَسَبِ مَا يَرَى وَاحِدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الدِّيَةِ مِنَ الْوَرِقِ، فَهِيَ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عُشْرُهَا، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا عَشَرَةُ آلَافٍ عُشْرُهَا. وَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ اخْتِلَافٌ فِي عَقْلِ الْأَصَابِعِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِي الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا بِعَقْلِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرِ فَرَائِضَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرٌ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرٌ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَمَانٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ سَبْعٌ.
وَأَمَّا التَّرْقُوَةُ وَالضِّلْعُ، فَفِيهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ حُكُومَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا تَوْقِيتٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ، وَالضِّلْعِ بِجَمَلٍ، وَفِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي التَّرْقُوَةِ بَعِيرَانِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ. وَعُمْدَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيتٌ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةٌ. وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْفَمِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ.
وَأَمَّا الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَانِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ اعْتَرَضَ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الْأَسْنَانِ مِثْلَ الْأَضْرَاسِ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْأَصَابِعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ. عُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «فِي السِّنِّ خَمْسٌ» وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَاسْمُ السِّنِّ يَنْطَلِقُ عَلَى الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَتَشْبِيهُهَا أَيْضًا بِالْأَصَابِعِ الَّتِي اسْتَوَتْ دِيَتُهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهَا. وَعُمْدَةُ مَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ يُوجَدُ فِيهِ تَفَاضُلُ الدِّيَاتِ لِتَفَاضُلِ الْأَعْضَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَارَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ عَنْ تَوْقِيفٍ. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَثْبُتُ الدِّيَةُ فِيهَا خَطَأً فِيهَا الْقَوَدُ فِي قَطْعِ مَا قُطِعَ وَقَلْعِ مَا قُلِعَ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْرِ مَا كُسِرَ مِنْهَا مِثْلُ السَّاقِ وَالذِّرَاعِ هَلْ فِيهِ قَوَدٌ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ فِي كَسْرِ جَمِيعِ الْعِظَامِ إِلَّا الْفَخِذَ وَالصُّلْبَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَرُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى السِّنَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ، وَكَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ فِي السِّنِّ الْمَكْسُورَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُقِدْ مِنَ الْعَظْمِ الْمَقْطُوعِ فِي غَيْرِ الْمِفْصَلِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقَادَ مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ.

.[دِيَةُ الْمَرْأَةِ]:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَاتِ الشِّجَاجِ وَأَعْضَائِهَا، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي عَقْلِهَا مِنَ الشِّجَاجِ وَالْأَعْضَاءِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَادَتْ دِيَتُهَا إِلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ (أَعْنِي: دِيَةَ أَعْضَائِهَا مِنْ أَعْضَائِهِ). مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي اثْنَيْنِ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَفِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثُونَ، وَفِي أَرْبَعَةٍ عِشْرُونَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ دِيَةُ جِرَاحَةِ الْمَرْأَةِ مِثْلُ دِيَةِ جِرَاحَةِ الرَّجُلِ إِلَى الْمُوضِحَةِ، ثُمَّ تَكُونُ دِيَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ مِنْ قَوْلَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِي جِرَاحِهَا وَأَطْرَافِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَشْهَرَ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَعُمْدَةُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَوَاجِبٌ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ مِنَ السَّمَاعِ الثَّابِتِ، إِذِ الْقِيَاسُ فِي الدِّيَاتِ لَا يَجُوزُ وَبِخَاصَّةٍ لِكَوْنِ الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَلِذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ لِسَعِيدٍ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْهُ، وَلَا اعْتِمَادَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى إِلَّا مَرَاسِيلَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِينَ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «كَمْ فِي أَرْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا؟
قَالَ: عِشْرُونَ»
، قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ بَلِيَّتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا، قَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟
قُلْتُ بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ، قَالَ: هِيَ السُّنَّةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ وَعِكْرِمَةَ. وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْقَوْلَ بِهِ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، لَكِنَّ فِي هَذَا ضَعْفٌ إِذْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَ الْقَوْلَ بِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْقِيَاسَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَارَضَهُ فِي ذَلِكَ قِيَاسٌ ثَانٍ أَوْ قَلَّدَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ. فَهَذِهِ حَالُ دِيَاتِ جِرَاحِ الْأَحْرَارِ وَالْجِنَايَاتِ عَلَى أَعْضَائِهَا الذُّكُورِ مِنْهَا وَالْإِنَاثِ.

.[دِيَةُ الْعَبْدِ]:

وَأَمَّا جِرَاحُ الْعَبِيدِ وَقَطْعُ أَعْضَائِهِمْ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ فِي جِرَاحِهِمْ وَقَطْعِ أَعْضَائِهِمْ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرُ مَا فِي ذَلِكَ الْجِرَاحِ مِنْ دِيَتِهِ، فَيَكُونُ فِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَفِي عَيْنِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ إِلَّا مُوضِحَتَهُ وَمُنَقِّلَتَهُ وَمَأْمُومَتَهُ، فَفِيهَا مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرُ مَا فِيهَا فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تَشْبِيهُهُ بِالْعُرُوضِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي تَشْبِيهُهُ بِالْحُرِّ إِذْ هُوَ مُسْلِمٌ وَمُكَلَّفٌ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مِنْ هَذِهِ إِذَا جَاوَزَتِ الثُّلُثَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةُ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الثُّلُثَ فَمَا زَادَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْمِلُ مِنْ ذَلِكَ الْعُشْرَ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: الْمُوضِحَةُ فَمَا زَادَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ هِيَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ فَمَنْ خَصَّصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلَا عُمْدَةَ لِلْفَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ وَمَشْهُورٌ.
وَهُنَا انْقَضَى هَذَا الْكِتَابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْقَسَامَةِ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَسَامَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِفُرُوعِ هَذَا الْبَابِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ أَمْ لَا؟
الثَّانِيَةُ: إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا هَلْ يَجِبُ بِهَا الدَّمُ أَوِ الْفِدْيَةُ أَوْ دَفْعُ مُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَانِ فِيهَا الْمُدَّعُونَ أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَكَمْ عَدَدُ الْحَالِفِينَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ؟
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا يُعَدُّ لَوْثًا يَجِبُ بِهِ أَنْ يَبْدَأَ الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ.

.الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: [هَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ؟

]:
أَمَّا وُجُوبُ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَالَ: بِهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ (مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ)، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو قِلَابَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ عُلَيَّةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا. عُمْدَةُ الْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي أَلْفَاظِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا أَنَّ الْقَسَامَةَ مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا:
فَمِنْهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَتْلَ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَتْلُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلِذَلِكَ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزُ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟
فَأَضَبَّ الْقَوْمُ وَقَالُوا: نَقُولُ إِنَّ الْقَسَامَةَ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ قَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ، وَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ وَنَصَّبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءُ الْأَجْنَادِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ رَجُلًا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِدِمَشْقَ وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟
قَالَ: لَا قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ رَجُلًا شَهِدُوا عِنْدَكَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بِحِمْصَ وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ؟
قَالَ: لَا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: قُلْتُ: فَمَا بَالُهُمْ إِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِأَرْضِ كَذَا وَهُمْ عِنْدَكَ أَقَدْتَ بِشَهَادَتِهِمْ؟
قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْقَسَامَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا شَاهِدَيْ عَدْلٍ أَنَّ فَلَانَا قَتَلَهُ فَأَقِدْهُ، وَلَا يُقْتَلُ بِشَهَادَةِ الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، قَالُوا: وَمِنْهَا، أَنَّ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَيْمَانَ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِشَاطَةِ الدِّمَاءِ. وَمِنْهَا، أَنَّ مِنَ الْأُصُولِ «أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِالْقَسَامَةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ حُكْمًا جَاهِلِيًّا فَتَلَطَّفَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرِيَهُمْ كَيْفَ لَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِهَا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا (أَعْنِي: لِوُلَاةِ الدَّمِ وَهُمُ الْأَنْصَارُ؟
) قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نُشَاهِدْ؟
قَالَ: فَيَحْلِفُ لَكُمُ الْيَهُودُ، قَالُوا: كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟
قَالُوا: فَلَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَحْلِفُوا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا لَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السُّنَّةُ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ غَيْرَ نَصٍّ فِي الْقَضَاءِ بِالْقَسَامَةِ وَالتَّأْوِيلِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَصَرْفُهَا بِالتَّأْوِيلِ إِلَى الْأُصُولِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهَا وَبِخَاصَّةٍ مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّ سُنَّةَ الْقَسَامَةِ سُنَّةٌ مُنْفَرِدَةٌ بِنَفْسِهَا مُخَصَّصَةٌ لِلْأُصُولِ كَسَائِرِ السُّنَنِ الْمُخَصَّصَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ حَوْطَةُ الدِّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ يَكْثُرُ وَكَانَ يَقِلُّ قِيَامُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْقَاتِلِ إِنَّمَا يَتَحَرَّى بِالْقَتْلِ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ جُعِلَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ، لَكِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ، ذَلِكَ أَنَّ السَّارِقَ تَعَسَّرَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ، فَلِهَذَا أَجَازَ مَالِكٌ شَهَادَةَ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى السَّالِبِينَ مَعَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِلْأُصُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسْلُوبِينَ مُدَّعُونَ عَلَى سَلْبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [مَاذَا يَجِبُ بِالْقَسَامَةِ؟

]:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْقَسَامَةِ فِيمَا يَجِبُ بِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُسْتَحَقُّ بِهَا الدَّمُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ: تُسْتَحَقُّ بِهَا الدِّيَةُ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِلَّا دَفْعُ الدَّعْوَى عَلَى الْأَصْلِ فِي أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ مِنْهَا دَفْعُ الْقَوَدِ فَقَطْ، فَيَكُونُ فِيهَا يَسْتَحِقُّ الْمُقْسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ. فَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مِنْ مُرْسَلِ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ».
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ بِهَا الدِّيَةَ فَقَطْ، فَهُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ يُوجَدُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَمْوَالِ (أَعْنِي: فِي الشَّرْعِ)، مِثْلَ مَا ثَبَتَ مِنَ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، وَمِثْلَ مَا يَجِبُ الْمَالُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِالنُّكُولِ وَقَلْبِهَا عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِقَلْبِ الْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مَالِكٍ. وَقِيلَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَهْلٍ. وَحَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ قَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ، فَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ وَأَسْنَدَهُ غَيْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ السَّبَبَ فِي أَنْ لَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَاعْتَضَدَ عِنْدَهُمُ الْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ بِالْقَسَامَةِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَقُّ بِهَا الدِّيَةُ»، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهَا دَفْعُ الدَّعْوَى فَقَطْ، فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [مَنْ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَانِ وَكَمْ عَدَدُهُمْ؟

]:
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَسَامَةِ (أَعْنِي: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا يُسْتَوْجَبُ بِهَا مَالٌ أَوْ دَمٌ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَانِ الْخَمْسِينَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ)، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُمْ: يَبْدَأُ الْمُدَّعُونَ، وَقَالَ: فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَلْ يَبْدَأُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْأَيْمَانِ. وَعُمْدَةُ مَنْ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُرْسَلُهُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى التَّبْدِئَةَ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ حَثْمَةَ وَفِيهِ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ، قَالُوا: مَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ يَهُودَ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطِلَّ دَمَهُ، فَوَادَاهُ بِمِائَةِ بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ». قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَوْجَبُ بِالْأَيْمَانِ الْخَمْسِينَ إِلَّا دَفْعُ الدَّعْوَى فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَهُودَ وَبَدَأَ بِهِمْ: أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا؟
فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: احْلِفُوا، فَقَالُوا: أَنَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةً عَلَى يَهُودَ، لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ»
، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ جَعَلَ الْيَمِينَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَلْزَمَهُمُ الْغُرْمَ مَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ (أَعْنِي: أَنَّهُ قَضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْيَمِينِ وَالدِّيَةِ). وَخُرِّجَ مِثْلُهُ أَيْضًا مِنْ تَبْدِئَةِ الْيَهُودِ بِالْأَيْمَانِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِلْجُهَنِيِّ الَّذِي ادَّعَى دَمَ وَلِيِّهِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ وَكَانَ أَجْرَى فَرَسَهُ فَوَطِئَ عَلَى أُصْبُعِ الْجُهَنِيِّ فَنُزِيَ مِنْهَا فَمَاتَ، فَقَالَ: عُمَرُ لِلَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِمْ: أَتَحْلِفُونَ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا؟
فَأَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا وَتَحَرَّجُوا، فَقَالَ لِلْمُدَّعِينَ: احْلِفُوا، فَأَبَوْا فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِشَطْرِ الدِّيَةِ»
.
قَالُوا: وَأَحَادِيثُنَا هَذِهِ أَوْلَى مِنَ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا تَبْدِئَةُ الْمُدَّعِينَ بِالْأَيْمَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ شَاهِدٌ لِأَحَادِيثِنَا مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مُوجَبُ الْقَسَامَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا:

أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلُونَ بِهَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِشُبْهَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الشُّبْهَةِ مَا هِيَ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَتِ الشُّبْهَةُ فِي مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَبَيْنَ قَوْمِ الْمَقْتُولِ عَدَاوَةٌ كَمَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ دَارَ الْيَهُودِ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، وَوُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي نَاحِيَةٍ قَتِيلٌ وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ مُخْتَضِبٌ بِالدَّمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَى نَفَرٍ فِي بَيْتٍ فَوَجَدَ بَيْنَهُمْ قَتِيلًا وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الشُّبَهَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْحُكَّامِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُحِقٌّ لِقِيَامِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا (أَعْنِي: أ‍َنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِلَوْثٍ)، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا لَوَّثَ بِاتِّفَاقٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. وَكَذَلِكَ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي قَرِينَةِ الْحَالِ الْمُخَيِّلَةِ مِثْلَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ مُتَشَحِّطًا بِدَمِهِ وَبِقُرْبِهِ إِنْسَانٌ بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ مُدْمَاةٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ لَيْسَ لَوْثًا، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ عَدَاوَةٌ بَيْنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْقَتِيلُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ هَاهُنَا شَيْءٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِاشْتِرَاطِ اللَّوْثِ فِي وُجُوبِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهَا قَوْمٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَبِهِ أَثَرٌ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ بِنَفْسِ وُجُودِ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ دُونَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ الَّتِي اشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ، وَدُونَ وُجُودِ الْأَثَرِ بِالْقَتِيلِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ قَالَ: الْقَسَامَةُ تَجِبُ مَتَى وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ مَنْ قَتَلَهُ أَيْنَمَا وُجِدَ، فَادَّعَى وُلَاةُ الدَّمِ عَلَى رَجُلٍ وَحَلَفَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ هُمْ حَلَفُوا عَلَى الْعَمْدِ فَالْقَوَدُ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى الْخَطَأِ فَالدِّيَةُ، وَلَيْسَ يَحْلِفُ عِنْدَهُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا مِنْ أُولَئِكَ.
وَقَالَ دَاوُدُ: لَا أَقْضِي بِالْقَسَامَةِ إِلَّا فِي مِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَانْفَرَدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ مِنْ بَيْنِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقَائِلِينَ بِالْقَسَامَةِ، فَجَعَلَا قَوْلَ الْمَقْتُولِ فُلَانٌ قَتَلَنِي لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ. وَكُلٌّ قَالَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ شُبْهَةٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَلِمَكَانِ الشُّبْهَةِ رَأَى تَبْدِئَةَ الْمُدَّعِينَ بِالْأَيْمَانِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الشُّبَهَ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقُلُ الْيَمِينَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْمُدَّعِي، إِذْ سَبَبُ تَعْلِيقِ الشَّرْعِ عِنْدَهُ الْيَمِينُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِقُوَّةِ شُبْهَتِهِ فِيمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى شُبْهَةٌ فَضَعِيفٌ وَمُفَارِقٌ لِلْأُصُولِ وَالنَّصُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخُرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَمَا احْتَجَّتْ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ هُنَالِكَ أُسْنِدَ إِلَى الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ هَلْ يُقْتَلُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْقَسَامَةُ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْسَمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَيُقْتَلُ مِنْهَا وَاحِدٌ يُعَيِّنُهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ الْمَخْزُومِيُّ: كُلُّ مَنْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ قُتِلَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَدْلَانِ أَنَّ إِنْسَانًا ضَرَبَ آخَرَ وَبَقِيَ الْمَضْرُوبُ أَيَّامًا بَعْدَ الضَّرْبِ ثُمَّ مَاتَ أَقْسَمَ أَوْلِيَاءُ الْمَضْرُوبِ إِنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ وَقِيدَ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَسَامَةِ فِي الْعَبْدِ، فَبَعْضٌ أَثْبَتَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَشْبِيهًا بِالْحُرِّ، وَبَعْضٌ نَفَاهَا تَشْبِيهًا بِالْبَهِيمَةِ، وَبِهَا قَالَ مَالِكٌ، وَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ فِيهَا فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَلَا يَحْلِفُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا يَحْلِفُ عِنْدَهُ أَقَلُّ مِنِ اثْنَيْنِ فِي الدَّمِ وَيَحْلِفُ الْوَاحِدُ فِي الْخَطَأِ. وَإِنْ نَكَلَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ بَطَلَ الْقَوَدُ وَصَحَّتِ الدِّيَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكُلْ (أَعْنِي: حَظَّهُ مِنْهَا). وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ نَكَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ بَطَلَتِ الدِّيَةُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ فِي الْقَسَامَةِ هُوَ دَاخِلٌ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الدِّمَاءُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جُزْءٌ مِنْ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَاهُ هُنَا عَلَى عَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ قَضَاءٌ خَاصٌّ بِجِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ رَأَوْا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُذْكَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقَضَاءُ فَيُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ، وَقَدْ تَجِدُهُمْ يَفْعَلُونَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، فَإِنَّهُ سَاقَ فِيهِ الْأَقْضِيَةَ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.